يؤكد عالم النفس جلين ويلسون أن الكثير من فنون الأداء هي تطوير لطقوس مورست في حقبات سالفة. وفي مصر، يمكن اعتبار طقس "الزار" من أكثر الطقوس تجسيداً لمقولة ويلسون. والزار هو مجموعة طقوس تطهيرية وعلاجية لطرد الأرواح الشريرة التي يُعتقد أنها تسكن جسد الإنسان، وتحديداً النساء، عن طريق رقصات هيستيرية مشحونة بالقلق والخوف والتوتر، ومصحوبة بالإيقاع والأداء الحركي والأغاني.
وتتجسد في طقس الزار فنون أداء مختلفة ترافقها إيقاعات خاصة وإشارات ورموز. ويمكن اعتبار الزار عملية مسرحية تلقائية، تتحرر فيها النفس البشرية من قيود الزمان والمكان، أو تنتقل من حالة إلى حالة أخرى. ومن هنا جاءت الوظيفة العلاجية النفسية لهذا الطقس.
جنّي الزار
يختلف الباحثون واللغويون حول التأصيل التاريخي واللغوي لكلمة الزار. فبعضهم يرى أنها كلمة عربية مشتقة من الزيارة، أي من كون الجن يزور الآدميين في مواعيد معينة من السنة. وبعضهم الآخر يقول إنها مستعارة من اللغة الأمهرية، وإن طقس الزار انتقل من إثيوبيا إلى السودان ومنها إلى مصر في القرن التاسع عشر، وهذا ما يرفضه كثيرون.
وبعد لفته إلى أنه "عادة ما تفقد المسميات معانيها الدالة عليها، بفعل تقادم الزمن وكثرة التحويرات التي تلحق بها جراء تعدد لهجات الذين يتداولونها"، قال الشاعر والباحث في الفولكلور المصري فارس خضر لرصيف22 "إن الزار انتقلت إلى مصر من الحبشة (إثيوبيا حالياً) حيث تطلق على جنّي الزار الذي يتجسد فى أبدان بعض الأشخاص، بحيث لا يتخلص منه الشخص المصاب إلَّا بعد القيام بعدد من الطقوس، وهي غالباً طقوس لدفع الضرر، ولكن قد تكون طقوساً للاسترضاء في حالة تعذر إخراج الجن من الجسد".
ويرى الشاعر والباحث مسعود شومان أن "الزار قديم قدم الحضارة الإنسانية. فطوال الوقت كان هناك توسل إلى القوى الغيبية، عن طريق الحركات الجسدية التي تطورت إلى طقس احتفالي سمي بالزار". وقال لرصيف22: "للزار أصول أفريقية عتيقة، فالأفارقة يتوسلون طوال الوقت إلى الآلهة عن طريق مجموعة من الطقوس التي تحولت في ما بعد إلى مجموعة من فنون الأداء. علماً أن معظم الإيقاعات الموسيقية المستخدمة في هذا الطقس، يمكن نسبها إلى الشعوب الإفريقية، غير أن للمصريين بصماتهم الخاصة على الزار، فهم حوّلوه إلى طقس احتفالي، استلهمت منه الكثير من الأعمال المسرحية والدرامية".
دجل وشعوذة أم طقس علاجي؟
تنتشر حفلات الزار، وإن كانت قليلة الآن، في القرى والمناطق الشعبية في القاهرة وتحديداً في الدرب الأحمر، درب التبانة، السيدة زينب، والغورية. وهناك عائلات اشتهرت بأداء هذا الطقس، من بينها عائلات أبو الغيط في القناطر الخيرية، وأنهار التي توجهنا إليها أثناء رحلتنا الميدانية.
تقود حفلات الزار سيدة تدعى الكودية أو الشيخة، وهي في الغالب امرأة سوداء تلعب دور الوسيط بين الملبوسين والأسياد. وتضع هذه السيدة كرسياً في وسط المجلس لتجلس عليه صاحبة المنزل التي زارها الجن وتذبح على رأسها ذبائح تكون قد أحضرتها بناءً على طلب الكودية. ثم تتلو الشيخة نصوصاً معهودة وتنشد بعض الأناشيد، منها كما نقلها الباحث حسام محسب: "كان يا ما كان في زمان ومكان/ كانوا تلاته من التلاتين/ جمع شين على زين الدين عملة/ مأمرة على الباقين/ أصل الشلو بيشبه للوة حتى حمار الزبالين/ بعد ما شالوا حطو وغطوا ناموا وغطوا ومش خايفين/ قامة قومة في عز النومة لا خلى كاف/ ولا شين ولا زين/ توته توته دي الحدوته وادي التوته والسامعين". ثم تضرب الكودية ومساعدوها من الرجال والنساء على الدفوف والطبول بنغمات وإيقاعات مختلفة، وترافق ذلك حركات الأجسام واهتزازها مع انتشار الأبخرة في الأجواء المفعمة بالضجيج والحركة. وتستمر هذه الطقوس حتى تسقط المريضة على الأرض، وحالما تسقط تبدأ الكودية بممارسة طقوس إخراج الزار، إذ تقوم بالصراخ بصوت عالٍ على الجن والشياطين والعفاريت، وتطلب منها الخروج مقابل تنفيذ مطالبها التي كثيراً ما تكون ديكاً أو خروفاً. علماً أن طقوس الزار تختلف من منطقة إلى أخرى.
ورثت السيدة الخمسينية سماح أنهار التي تسكن بحارة الدرب الأحمر، أداء طقوس الزار عن والدتها، لكنها تشكو قلة المُقبلين والمريدين وترجع الأمر إلى التطرف والتشدد الدينيين اللذين باتا يغلبان على المجتمع المصري، واللذين يُحرّمان الكثير من العادات والمعتقدات. وقالت لرصيف22: "الزار موروث شعبي لا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي، بل يقوم بوظيفة علاجية للسيدات اللواتي هنّ عرضة للمس من الجن والعفاريت، أو المقهورات اللواتي يعانين من حالة نفسية سيئة".
وتحدث محمد أحمد عبد الهادي الذي يسكن في منطقة فاطمة النبوية، عن خوضه معارك ضارية مع إحدى السيدات التي كانت تقيم حفلات الزار في بيت يقع بجانب بيته، حتى اضطرت للرحيل. وروى الرجل الأربعيني لرصيف22: "أسكن في هذا المنزل منذ فترة طويلة، وجارتي من السيدات الشهيرات في تنظيم حفلات الزار، ورغم موقفي المعارض تماماً للفكرة التي أراها كفراً ودجلاً وشعوذة، فقد تحملت هذا الأمر رغبة في الاستقرار. لكن في الفترة الأخيرة أدركت خطورة هذه الحفلات على أولادي وبناتي. فلم يعد الزار كما عهدناه من قبل، بل هو الآن عبارة عن حفلات لممارسة الجنس الجماعي. الكودية أو الشيخة التي تقود الزار تتفق مع الرجال لإحضار نساء يجئن ليرقصن على إيقاعات الموسيقى والترانيم، حتى يسقطن أرضاً وتبدأ ممارسة الجنس. هذا علاوة على تدخين الحشيش وتعاطي المخدرات. كانت الحفلات تستمر من الساعة الرابعة عصراً حتى أذان الفجر، يوم الإثنين من كل أسبوع ولكنني خضت معارك ضارية مع هذه السيدة حتى تركت المنزل".
الأداء الحركي وفن الإيحاء
يتميز طقس الزار بكثرة الرموز التعبيرية. بداية من الأداء الحركي للسيدات الذي يؤدي وظيفة نفسية مهمة، وهي تفريغ الطاقة السلبية واستبدالها بطاقة إيجابية، وصولاً إلى ألوان الملابس والحُلي والإيقاعات والأضحية والأغاني التي تحمل الكثير من الدلالات النفسية والاجتماعية.
يرى الباحث فارس خضر أن "الطقوس الصاخبة لطقس الزار هدفها الأول طرد الأرواح الشريرة، لاعتقاد ذائع لدى معظم الثقافات الإنسانية بأن الضجيج يطرد هذه الأرواح"، ويدلل على ذلك بقوله: "كان المتوفى قديماً في الصحراء الغربية يشيع إلى قبره بمصاحبة طبلة ضخمة تعزف لحناً مدويّاً، وكانت النادبات عليه يضربن على الطبل والطار وعلب الصفيح". ويلفت إلى ممارسة الضغط على الجسد حتى إيذائه، لاعتقاد بأن ذلك يُخرج الجن منه، و"هذه الطقوس تفصح عن مدى القهر الذي تعاني منه المرأة ولا تجد له خلاصاً".
وقال أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة الدكتور خالد أبو الليل لرصيف22 "إن طقس الزار أقرب إلى حلقات الذكر عند الرجال، وفيه تتحرر النساء من كل قيود الدنيا، لينطلقن إلى عالم روحاني لا يشعرن فيه حتى بأنفسهن". وأشار إلى "وجود قوى غيبية وأسرار كثيرة تحيط بهذا الطقس لم يتوصل إليها الباحثون حتى الآن". وأضاف: "حضرت بعض حفلات الزار ورصدت الكثير من التغييرات في ملامح النساء اللواتي يقمن بهذا الطقس. عندما يتعالى صوت الموسيقى تجدهن يرقصن بإيقاعات عنيفة في حالة من الانفصال التام عن الدنيا، وكأن هناك قوى أخرى تحركهن. وتجد سيدة عجوزاً قبل الزار لا تستطيع السير، لكن أثناء الحفل تجدها مستغرقة في الرقص والأداء الحركي".
حالياً، اختفت حفلات الزار من الكثير من المناطق التي اشتهرت بها. هذا الأمر أرجعه شومان إلى موجات التحريم التي انتشرت في المجتمع المصري. وقال: "موجات التحريم شملت معظم ما يتعلق بالمعتقد الشعبي المصري، مثل زيارة الأولياء، وكل المعتقدات المتشابكة مع فكرة الدين. وقد شملت الزار ليتحول إلى طقس احتفالي فقط. وهناك بعض الأعمال المسرحية والدرامية التي تقوم بتوظيفه، لكن، ويا للأسف، بشكل سطحي غير واعٍ بأبعاده الثقافية والفنية".
No comments:
Post a Comment