بالصور .. حين كافأ الملك فاروق الفقراء بـ60 ألف حذاء!!
وزير الشئون الاجتماعية يطور المشروع إلى توفير زى شعبي كامل
فلاح يقرأ الفاتحة عند قصر عابدين لولي الله الصالح فاروق الأول!
"الدنيا ألوان، وليست أبيض أو أسود وحسب" تذكر هذه الجملة جيدا وأنت تقلب في كتب التاريخ. ولنأخذ مثالا بسيطا ما بين العهد الملكي الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي والعهد الجمهوري الاشتراكي التي تشكل بعد 1952، فالمتحيزون لأحد العصرين يضفي اللون الأبيض على الآخر، ليتواري اللون الأبيض تماما.
فالناصريون يصرون وبشدة على وصم كل ما قبل 1952 بالفساد والمحسوبية والرشاوى والفضائح السياسية والجنسية، وكأن مصر عاشت تاريخها كله في انتظار من يأتي ويعلمها الحرية والكرامة، ويأخذ بيد الشعب للحياة الزاهية الوردية. تلك النظرة الأحادية تقابلها نظرة أنصار التجربة الليبرالية في العهد الملكي ممن يرون السواد قد نشر جناحه على مصر بعد انقلاب 1952، فلا حرية ولا ديمقراطية, والشعب في ضنك واكتئاب.
تلك النظرات الحادة والمتطرفة للتاريخ من السهل إسقاطها وإلقائها في أقرب سلة مهملات، فالبشر – وكذلك الأنظمة الحاكمة - ليسوا ملائكة نورانية لا يقترفون السيئات، وليسوا شيطانا لا يعرفون إلا الشر، وإنما هو التدرج ما بين الخير والشر، وغلبة لون على أخر، فالدنيا ألوان.
وشبكة الإعلام العربية تواصل استعراض تاريخ مصر الاجتماعي، مع المصور سمير الغزولي، والذي يملك أرشيفا نادرا من الصور الفوتوغرافية، وأمدنا اليوم بصور عن واحد من أكبر المشاريع الاجتماعية في مصر الملكية؛ مكافحة الحفاء!.
في عهد 1941، اعتزم ملك مصر والسودان الملك فاروق الأول رحمه الله التصدي لمشكلة الحفاء التي يعاني منها الملايين من أبناء الشعب المصري، سواء كانوا من أهل القرى والأرياف أو المدن. فوجه ناظر خاصة جلالة الملك خطاب لمجلس الوزراء جاء فيه:
" لما كان كثير من أهل القرى والمدن يمشون لرقة حالهم حفاة الأقدام، وفي ذلك ما فيه من مضار صحية وأدبية رأي مولاي أعزه الله وأعز به البلاد أن يكون عيد ميلاده السعيد هذا العام ذا أثر كبير في القضاء على هذه الحال بالتيسير على أمثال هؤلاء لتحتذوا أحذية كل وما يناسبه...
وقد تفضل جلالته فأمرني أن أبعث إلي دولتكم بمبلغ 2000 جنيه لهذا الغرض رجاء اتخاذ ما ترون من تدابير لتحقيق هذه الرغبة السامية وتنفيذها بأسرع ما يستطاع..
ولا ريب أن تسابق الموسرين من المصريين وغيرهم من مختلفي الهيئات في البذل لتعضيد هذا المشروع كفيل بدوام تمتع هؤلاء بذاك المظهر الحسن العديد من المزايا المحمود الأثر في الحياة المصرية صحيا وأدبيا..
وإني إذ أتشرف بإرسال أذن صرف رقم 905597 بالمنحة المتقدم ذكرها .. أرجو يا صاحب الدولة التفضل بقبول فائق احترامي
تحريرا في 6 فبراير سنة 1941
ناظر خاصة جلالة الملك".
استجابت وزارة حسين سري باشا لتوجيهات الملك، وأعتمد رئيس الوزراء قرار يقضي بشراء 60 ألف حذاء للمصريين الحفاة، وتشكلت لجنة مركزية حكومية من كبار رجال الدولة لتدشين مشروع مكافحة الحفاء الذي كان منتشرا بين أبناء الطبقات الرقيقة في المجتمع.
ووفقا لمجلة المصور، عدد إبريل 1941، فقد تطورت الفكرة بعدما اقترح وزير الشئون الاجتماعية عبد الجليل باشا أبو سمرة أن لا يقتصر مشروع مكافحة الحفاء على اختيار نموذج للحذاء رخيص الثمن للعمال والصناع ، بل يجب أن يتناول زى شعبي كامل يشمل الملبس وغطاء للرأس يقي الرأس والرقبة من أشعة الشمس "الفاروقية ".
واشترط الوزير أن يكون سعر الزى في متناول كل فقير ، لهذا اتفق مع شركة "مصر للنسيج" على تصنيع وحياكة الزى المكون من الفاروقية وجاكت طويل وبنطلون من التيل الأبيض ويستبدل البنطلون الطويل بآخر قصير للفلاحين.
الطقم بالكامل سعره 20 قرشا تدفع لجنة مكافحة الحفاء 5 قروش ويدفع الفقير الباقي. على أن يكون ارتداء هذا الزى إجباري بين العمال والصناع والفلاحين حتى يمكن الوصول إلى الزى الموحد.
ومساهمة منها في هذا المشروع الاجتماعي الخطير أصدرت المصور عددا خاصا يتناول مستعينة بآراء نخبة من قادة الرأي والمفكرين، على أن تتبرع بإيراد العدد كاملا لصندوق المشروع، داعية قرائها إلى التبرع "بحرارة" "والاشتراك معنا في هذا العمل النبيل بالإقبال على شراء العدد أو الإعلان فيه"، باعتبار أن كل قرش يدفعه القارئ أو المعلن في هذا السبيل يذهب توا للمشروع.
الطريف – كما يخبرنا الغزولي- أن بعض الفلاحين والحفاة كانوا يرفضون ارتداء الحذاء، ويفضلون السير عراة الأقدام، باعتبار أن الطين قد كوًن طبقة سميكة على الجلد، هي عندهم أفضل من الحذاء. أما من وافق منهم على ارتداء الحذاء، فقد كان يضعه تحت أبطه في القرية خوفا عليه من التراب والاتساخ، ولا يضعه في قدمه إلا حينما يضع أقدامه في شوارع القاهرة.
ومن طريف ما يذكر أن أحد الفلاحين ذهب إلى قصر عابدين لكي يقرأ الفاتحة على الملك الذي بدا له وكأنه أحد أولياء الله الصالحين بعدما منح قدمه فرصة اللقاء بحذاء لأول مرة في حياته.
المشروع راعي الفروق بين العمال والفلاحين، فقد كان الحذاء المكشوف – أي الشبشب- من نصيب الفلاحين، فيما حظي العمال بالحذاء شبه المكشوف أي الصندل.
أحد مشايخ وكبار أبناء الريف المصري كان له رأي في الموضوع إذ قال " المهم في التنفيذ مش في الكلام لأننا عندنا عادة وحشة وهي إن اللي يلبس له جزمه يقولوا عليه ده اغتني ولا بقاش فلاح! وعلشان كده ما تلاقيش فلاح يشتري جزمه جديدة ، إنما لازم تكون ملبوسة – أي مستعملة – حتى ولو كانت "بلغة"..
والمهم كمان إن الحكومة تعاقب اللي يمشي حافي ما دام أخذ الجزمة ، وساعتها الفلاح راح يعرف فايدة الجزمه وتصبح عنده عادة ، فأول ما تدوب يروح من نفسه يشتري غيرها!!"
No comments:
Post a Comment