علي كثرة عيوبها التي تستحق بسببها ألف لعنة, فإن من مزايا الفضائيات التليفزيونية العربية, التي تستحق بسببها ألف قبلة, أن بعضها- خصوصا قنوات الأفلام- تعيد بث الأفلام المصرية التي أنتجت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي, فتتيح لأمثالي- ممن أصبحوا للأسف شيوخا- الفرصة لاستعادة ذكريات أيام الشباب الذي ولي, حين شاهدوا هذه الأيام نفسها لأول مرة, وتوافرت لهم فرصة نادرة, للمقارنة بين الانطباع الذي خرجوا به من دار السينما حين شاهدوها في ذلك الزمان البعيد, وما تتركه في أنفسهم مشاهدتهم لها.. في هذا الزمان.
وربما لهذا السبب, ولأسباب أخري لا داعي لذكرها, لا أكاد أعرف, أو أعثر بالمصادفة, علي فيلم مما شاهدته في أيام صباي وشبابي, يعرض في إحدي هذه القنوات, حتي أتوقف أمامه, لأشاهده, علي الرغم من أنني أكون قد شاهدته علي القناة ذاتها أو غيرها, عدة مرات من قبل, محاولا أن أتذكر أين رأيته لأول مرة ومع من, باحثا عما يكون قد أضحكني أو أبكاني أو جعلني أحبس أنفاسي من أحداثه وشخصياته وجمل حواره أيامها, وعن الأسباب التي تدفعني هذه الأيام للعدول عن انطباعي الأول عنه.
من بين هذه الأفلام فيلم ملئ بالغرائب, من إنتاج عام1952, ومن بين غرائبه, أنه عرض لأول مرة في مارس1952 باسم شمشون ولبلب وبعد يومين من بداية عرضه الأول سحب من دار السينما التي تعرضه, من دون سبب معروف, ثم عاد ليعرض بعدها بستة أشهر باسم عنتر ولبلب.
وكانت مصر أيامها تعيش في ظل الظروف التي أعقبت حريق القاهرة, الذي وقع في يناير من ذلك العام, وأدي إلي إعلان حالة الطوارئ, وفرض الرقابة علي الصحف, واعتقال النشطاء السياسيين, الذين استغلوا فترة المد الوطني التي أعقبت إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية من طرف واحد, هو مصر, لتشكيل كتائب تقوم بأعمال فدائية ضد القواعد البريطانية في منطقة قناة السويس, لإجبار بريطانيا علي إجلاء قواتها عن مصر.
وأدت هذه الظروف إلي فرض حظر للتجوال في القاهرة والإسكندرية بين منتصف الليل والسادسة صباحا, فقررت دور السينما إلغاء حفلات السواريه, وصادرت الرقابة علي المصنفات الفنية, عددا من الأفلام الوطنية التي كان المنتجون قد شرعوا علي عجل في إعدادها, استثمارا لموجة الحماسة الوطنية التي أعقبت إلغاء المعاهدة, علي الرغم من أنهم كانوا قد حصلوا كالعادة علي موافقة الرقابة علي السيناريو قبل التصوير, لكنها تعللت بأن الظروف قد تغيرت وبأن عرضها- في جو الاحتقان السياسي الذي أعقب حريق القاهرة- يمكن أن يؤدي إلي تكدير الأمن العام, وكان من بين هذه الأفلام فيلم مصطفي كامل, الذي أخرجه وأنتجه أحمد بدرخان, عن زعيم الحركة الوطنية المصرية في مطلع القرن العشرين, وفيلم( الكيلو99) الذي قام ببطولته إسماعيل يس, وتدور أحداثه في قالب كوميدي حول حركة الفدائيين ضد قاعدة قناة السويس, وقد عرض الفيلمان بعد أن تغيرت الظروف السياسية وقامت ثورة.1952
وربما تكون هذه الظروف هي السبب في مصادرة فيلم شمشون ولبلب بعد أيام من عرضه, فأحداث الفيلم تدور في حارة مصرية, تكفي لافتات متاجرها لإدراك أنها تمثل مصر كلها, فهناك عصير قصب الجلاء, وجزارة القنال, وعجلاتي الوحدة, وبقالة السلام يفد عليها ذات يوم شخص غريب ليس من سكانها, وهو شخص قوي مفتول العضلات, مدجج بالسلاح والأتباع هو شمشون, وكان يقوم بالدور الممثل الراحل سراج منير, فينزع قطعة من أرضها ليقيم عليها كازينو ومطعما وملهي ليلي, ينافس متاجرها, ويفسد أخلاق أهلها, مما يعرضه من رقص خليع, فيحط الفساد عليها إلي أن يتزعم لبلب, صاحب مطعم الحرية المقاومة, علي الرغم من فقره وضعفه وهزاله, فيتصدي لشمشمون ويدخل معه في منافسة علي الهبوط بأسعار المأكولات, لا يصمد فيها بسبب ضعف موارده المالية, لكنها تنتهي بمواجهة علنية بين الاثنين, يتحدي فيها لبلب عدوه شمشون ويراهنه علي أنه في استطاعته أن يصفعه سبع صفعات علي امتداد أسبوع, بواقع صفعة كل يوم, فإذا فعل, حقق شمشون مطلب الحارة, وهو الجلاء بلا قيد ولا شرط فإذا فاتته صفعة واحدة يغادر لبلب الحارة ويتركها لشمشون الدخيل بلا قيد ولا شرط.
ويدور الصراع بعد ذلك بين حماقة القوة وذكاء العقل, ويستعين شمشون بأتباعه وماله, وينضم أهالي الحارة إلي لبلب,الذي ينجح بذكائه وحيلته في توجيه الصفعات واحدة بعد أخري إليه, خصوصا أن الرهان تضمن كذلك بنت الحارة الجميلة لوزة المطربة حورية حسن, خطيبة لبلب, الذي قام بدوره المنولوجست الشهير محمود شكوكو, إذ اشترط شمشون أن يفوز بها ضمن كل ما يقتنيه لبلب في الحارة, في حالة فشله في توجيه الصفعات السبع إليه وخسارته للرهان.
وأمام توالي الهزائم يلجأ شمشون إلي المناورة, ويطالب بفتح باب المفاوضات, لكن أهل الحارة يدركون أنه يريد تمييع الموقف ليكسب الرهان, فيعلن لبلب أنه لا مفاوضة إلا بعد العزال- أي الجلاء- ويواصل المواجهة وينجح في شق جبهة شمشون وجذب زوجته إلي صفه, بعد أن أفشي إليها سر سعيه للزواج من لوزة, مما يمكنه من توجيه الصفعة السابعة إليه, فيجلو عن الحارة, مهزوما وتعيسا بعد أن انتصر الحق علي الباطل, والعقل علي القوة.
بعد أشهر من العرض الأول للفيلم في مارس1952, عاد مرة أخري إلي دور السينما وكانت ثورة يوليو قد قامت وتغيرت الظروف السياسية, لكن الحملة الدعائية التي مهدت وواكبت عرضه الثاني, أو بمعني أدق الأول مكرر, قدمته للناس باسم عنتر ولبلب, ولاحظ الذين شاهدوه أنه تعرض لعملية مونتاج لشريط الصوت, شملت معظمه, لحذف اسم شمشون, كلما ورد علي لسان إحدي الشخصيات واستبداله باسم عنتر بصوت يختلف, في نبراته وطبقته ودرجة تطابقه مع حركة الشفاه عن أصوات الممثلين الذين يرد علي ألسنتهم, ومن بينهم أصحاب أصوات مميزة مثل عبدالوارث عسر, وشكوكو, وهور ما أثار شكوكا في أن سبب سحب الفيلم من دور العرض لم يكن يتعلق بتناوله للصراع الوطني في مصر, بين المطالبين بتوقف المفاوضات, وبجلاء الإنجليز عن مصر, وبالوحدة بين مصر والسودان, وهي الشعارات التي كانت سائدة آنذاك بين صفوف الحركة الوطنية المصرية, والتي ارتفعت بقوة خلال المد الوطني الذي أعقب إلغاء معاهدة1936, واتفاقيتي1899 اللتين كانتا تعطيان إنجلترا الحق في مشاركة مصر في إدارة السودان, لكنها كانت تتعلق كذلك بإطلاق اسم شمشون, وهو أحد أنبياء بني إسرائيل, علي بطل الفيلم, وتصويره في صورة الرجل الشرير الذي يغتصب أرض غيره, ويفسد حياة أصحاب الأرض الأصليين, وهو ما يعني أن الفيلم- باسمه الأصلي- كان يحاول أن يربط بين القضية الوطنية المصرية والقضية الوطنية الفلسطينية, وأن يوجه للنشطاء علي الصعيدين رسالة خلاصتها, أن الضعف ليس مبررا للنكوس عن استرداد الحقوق, وأننا إذا لم نكن نملك القوة, فباستطاعتنا أن نستخدم الذكاء.
أحد ألغاز هذا الفيلم, هو سبب تغيير اسمه, وهل لذلك علاقة بأن مصر كانت آنذاك1953 تدرس عروضا أمريكية للصلح مع إسرائيل؟ أم أن الأمر- كما قرأت مرة- حدث بسبب اعتراض حاخام اليهود حاييم ناحوم أفندي علي استخدام اسم أحد أنبياء بني إسرائيل علي شخصية شريرة.
أما أهم هذه الألغاز فهو أننا لانزال بعد أكثر من نصف قرن علي إنتاج هذا الفيلم وستة عقود علي قيام دولة إسرائيل, عاجزين عن التنسيق بين استخدام العقل واستخدام العضلات من أجل تحرير فلسطين, وكلما استخدمنا أحدهما ضاع جزء آخر منها.