ولد نيال فِرغسون، مؤلف الكتاب، عام 1964 في غلاسكو باسكتلندا، وهو مؤرخ بريطاني متخصص في التاريخ المالي والاقتصادي، وتاريخ الإمبريالية. يعمل فِرغسون حاليا أستاذا للتاريخ في جامعة هارفرد، وأستاذا لإدارة الأعمال في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفرد أيضا. وهو كذلك زميل أبحاث أول في جامعة أكسفورد البريطانية، وزميل أول في معهد هوفر - مركز دراسات لليمين المحافظ تابع لجامعة ستانفورد بكاليفورنيا- وهو مؤلف لعدد كبير من الدراسات. إلا أن عملين من أعماله البحثية على وجه الخصوص أتاحا للمؤلف فِرغسُن حضورا جماهيريا عريضا. أحدهما: "الإمبراطورية: صعود وأفول الامبراطورية البريطانية، والدروس المستفادة من أجل النظام العالمي"(1). والكتاب الآخر: "الصنم: قيام وأفول الإمبراطورية الأميركية"(2). هذان الكتابان على نحو خاص جعلا فِرغسُن مقربا لدى مفكري وجمهور المحافظين الجدد؛ لأنه يبرهن فيهما على أن الامبريالية الأميركية هي الوارث الحتمي والطبيعي للامبريالية البريطانية. أمريكا بين إمبراطوريتين تطور دارويني تأريخ فكري الرأسمالية والظاهرة الامبريالية ابتكارات الرأسمالية أساس النظام البنكي الشركة الأولى التأمين وإدارة المخاطر جذور الفقاعة العقارية عصمة الرأسمالية الاقتصاد السلوكي
كان فرغسون ينطلق من رؤية جوهرها أن الولايات المتحدة هي الوارث التاريخي لنموذج بريطاني محدد، ومن موقف متميز من التمويل الرأسمالي، القائم على أسواق حرة، والمستند إلى حكومة تمثيلية، وتوجهات أيديولوجية علمانية. لكن موقفه من الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة شهد تحولا، منطلقا من رؤية "متبصرة" حول عدم قدرة أميركا ماليا على استدامة وتمويل أجندة إمبريالية واسعة أو جدول أعمال إمبريالي. بل أصبح فِرغسُن مؤخراً يقارن الولايات المتحدة بالإمبراطورية العثمانية المتأخرة، التي كانت قوة عظمى، وتهاوتْ -برأيه- تحت وطأة سوء الإدارة الاقتصادية، وقد عبر عن هذا الموقف في مقال نشره في صحيفة فايننشيال تايمز، بعنوان: "إنذار عثماني لأميركا المدينة" (1 يناير/كانون الثاني 2008). يمكن اعتبار كتاب "صعود المال" جهدا من المؤلف باتجاه إعادة الثقة لدى جمهوره بإمكانات الرأسمالية وتوكيد قدراتها كمنظومة قادرة على التجدد والاستمرار، بيد أنه في نفس الوقت يعيد إلى الاعتبار أن الرأسمالية من حيث كونها مجموعة من النُّظُم والأفكار، لا تقتصر على دولة واحدة، أو مجموعة من الدول، بل إنها منذ أمد بعيد قد تجاوزت سيطرة الحكومات القومية ورقابتها. بالتالي، برغم أن أميركا هي الاقتصاد الأكبر في العالم، إلا أن حكومتها لا تستطيع إلا فعل القليل من أجل الحد من انتقال الثروات من حوض شمال المحيط الأطلنطي بضفتيه إلى حوض غرب المحيط الهادي وشرق آسيا.(3) رغم جودة كتابة هذا العمل، وقدرته على اجتذاب اهتمام القارئ وإمتاعه ذهنيا، إلا أنه يفترض لدى القارئ وجود أساس كاف أو حد أدنى من المعرفة بالمفاهيم الاقتصادية والنظم المالية، مما يجعله صعب المتابعة والهضم لدى القارئ غير المتخصص. من هنا يبدو هذا العمل موجها إلى نخبة من القراء، بما فيهم سياسيون وأكاديميون وناشطون وإعلاميون وغيرهم من قادة الرأي، من الذين يود فرغسن توجيههم والتأثير في قناعاتهم وتوجهاتهم أو وجهات نظرهم. لذلك يلاحظ أن هناك حذف أو تجاهل متعمد للعديد من المسائل أو القضايا التي تعتبر بحسب هذا المعيار، غير ذات أهمية له ولجمهوره أو نخبته المرجعية.
من العصور الوسطى وحتى الوقت الحالي، تسير نظرية التطور الداروينية في المال والأسواق، كما يصفها فِرغسون عن اقتناع، بخطى سريعة. فابتداء من القرن الثالث عشر، ظهرت السندات أولا، حيث تم توريق العائد على فوائد الديون. وفي القرن السابع عشر، ابتكر الهولنديون أسهم الشركات ذات المسؤولية المحدودة. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، أدى فهم الاحتمالات الرياضية إلى توفير الحماية ضد المخاطر عن طريق صناديق التأمين والمعاشات. بينما شهد القرن التاسع عشر ظهور المشتقات المالية الأولى في صورة الخيارات والعقود الآجلة. وفي القرن العشرين، كان الأفراد يوجهون استثماراتهم إلى العقارات. يشير فِرغسون إلى أن النظم الاقتصادية التي تحدث فيها هذه الأشياء، أي النظم الديمقراطية المؤمنة بالملكية الخاصة مع وجود البنوك والسندات وأسواق الأسهم، والتغطية التأمينية، كانت عادة ما تقدم أداء أفضل مقارنة بغيرها من النظم الاقتصادية. وحرّي بنا هنا أن نضيف عبارة: "على الأقل حتى عهد قريب". لكن في العقدين الماضيين، ظهرت أنواع جديدة وهائلة من الخدمات المالية والأصول وشهية لا حدود لها -فيما يبدو- للأوراق المالية المدعومة بالأصول، وليس أقلها الرهون العقارية. ولعل جذور هذا ترجع إلى عقد السبعينات من القرن العشرين حيث شهدت هذه الفترة انهيار اتفاقية "بريتون وودز" التي وقعتها 44 دولة في 1944 بمدينة بريتون وودز بولاية نيوهَمبشاير الأميركية لتأسيس نظام مالي عالمي ونظام مدفوعات لما بعد الحرب العالمية الثانية. تلا ذلك مرحلة تكاثرت فيها المعاملات المالية العالمية، والتي ساعد عليها رفع القيود عن حركة رأس المال في التسعينات وما بعدها. فكانت النتيجة فقاعة مالية كبيرة شهدنا انفجارها مؤخرا. يبين كتاب فرغسون كيف تكونت ثروة الغرب الحديث من خلال النظام المالي الحديث وبسببه أيضا، وذلك عن طريق اقتفاء ستة مكونات جوهرية للنظام المالي الحديث عبر التاريخ. وبتقديم كيفية ظهور هذه المكونات، وماهية المميزات التي أضفتها على الاقتصادات التي اعتمدتها، يظهر فِرغسُون "فوائد" الرأسمالية في وقت يحاج فيه ضدها كثيرون. إن قوة الرأسمالية الرئيسة، وفقا للمؤلف، في قدرتها على خلق الثروة، وذلك يرتقي بمستوى المعيشة ويدعم التقدم. من ناحية أخرى، يتيح هذا العرض للكتاب، باعتباره سردا تاريخيا فكريا للنظام المالي الحديث، فرصة لمناقشة المناخ الفكري والقيم والمبادئ التي يستند إليها المؤلف والنخبة التي ينتمي إليها من علماء الاجتماع والاقتصاد الغربيين الذين ينطلقون في قناعاتهم ورؤيتهم الكونية من الرأسمالية والليبرالية الأنكلوسكسونية، باعتبارهما نهاية المطاف إن لم يكونا نهاية تاريخ البشرية وغاية سعيها نحو التنمية الاقتصادية والرخاء والارتقاء الاجتماعي. هذه النزوع نحو "تحتيم" النهايات متأصل في السلالة الفكرية الأنكلوسكسونية، وربما تجد أصولها في بعض روافد النبوءات البروتستانتية التي تتحدث عن لحظة "قطيعة" أو "فتق" نبوءاتي Rupture في مسار التاريخ كمقدمة لتحقق نبوءات العهد القديم أو سفر الرؤيا Apocalypse، القائلة بحلول نهاية العالم ذات المقدمات الكارثية والمعارك الفاصلة (هَرْمَجِدّون) Armageddon. بل إن هذا النزوع قائم في قلب التجربة الأميركية التي تحدثت مبكرا عن فرادتها التاريخية وكونها إرهاصا أو إيذانا، بل وتجسيدا لقيام "النظام العالمي الجديد"، بل ونقشته باللاتينية “Novus Ordo Seclorum” على الدولار أسفل الهرم. بيد أن منهج هذا الكتاب في التأريخ الفكري يكتسب أهمية بالغة بالنسبة للمفكرين والمثقفين العرب في سياق رؤيتهم لفضاء التداول الفكري والفلسفي العالمي، أو مشاركتهم وانخراطهم فيه، إذا ما أريد أن يكون للفكر العربي دور في السجال الدائر حول مصير الإنسانية وحظوظها في ظل السيطرة الراهنة للعالمية الأوروبية الحداثية أو نموذجها العولمي أو تجسداتها الأخرى عبر مساحات ذلك الفضاء، وما يترتب على ذلك من معايير وقيم وحراك وتوجهات ومآلات. وربما يصبح هذا النمط من التأليف حافزا للنهوض بمشروعات مكافئة في فضاء التداول الفكري العربي. يقدم كتاب فِرغسون تاريخاً لستة مكونات رئيسة للرأسمالية الحديثة، والمصالح التي تدرها ونتائج تحقُّقها. يلخص المؤلف فهمه لنظام التمويل الرأسمالي، ويجلّي من خلال ذلك تطور الرأسمالية وعناصر قوتها وإمكاناتها، كما أنه يحذر من خطورة إغفال مبادئ الاقتصاد الأساسية. وفيما يخص العلماء والباحثين، من الأهمية بمكان أن يستوعبوا ليس فقط النظام المالي الغربي، بل كذلك الإطار الفكري الذي يقدم مبررات هذا النظام القيـمي، ويدافع عن منافع الرأسمالية؛ في حين يهمش المذاهب والمبادئ الاقتصادية الأخرى. وبرغم أن الأفكار والسياسات التي يناقشها أو يبررها فرغسون لها انعكاساتها وعواقبها على المجتمعات الأخرى غير الرأسمالية. لكن من الواضح أنه ليس لها اعتبار لديه؛ بل إنه لا يعير اهتماما للنظريات الاقتصادية الغربية الأخرى، سواء تلك الواقعة ضمن الرأسمالية كالنظرية الاقتصادية الكينزية (للورد جون ماينرد كينز)، التي رُذِّلت وهُجِرت - منذ صعود الليبرالية الراديكالية الجديدة مع ريغان وتاتشر في ثمانينات القرن الماضي- لصالح اقتصاديات جانب العرض Supply Side Economics (اقتصاد السوق الحر)، أو تلك النظريات الاقتصادية الغربية الأخرى من ماركسية واشتراكية أو فوضوية.
كذلك، غالبا ما يتجاهل فرغسون العلاقة الوثيقة والجدلية بين الظاهرة الرأسمالية والامبريالية؛ فالرأسمالية بطبيعتها الأصيلة منظومة استغلالية بل متغولة، ولا تخضع لأي ضوابط أو توازنات، كتلك التي تخضع لها مثلا الدولة القومية الحديثة من خلال الدساتير ومبادئ فصل السلطات وتحديد الصلاحيات ومنع الجمع بين المصالح المتعارضة. بل إن الرأسمالية ممثلة بمؤسساتها ومموليها ومواردها لها منطق مهيمن على الموارد الطبيعية والبشرية والأسواق والدول الحديثة وآلياتها الديمقراطية والتشريعية. ولئن كانت مقولة لينين: "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" تستبطن فرضية أن للرأسمالية عالمها الخاص المركب وآليات حراكها وتفاعلاتها أو جدلياتها التاريخية وأنماط تطورها وصيرورتها وربما لاهوتها الخاص؛ إلا أن الخبرة التاريخية السابقة واللاحقة على قيام ظاهرة الرأسمالية، والأنكلوسكسونية منها بشكل خاص، لا تبرر توصيف هذه الظاهرة بذلك التعقيد البنيوي شبه اللاهوتي. فالحقيقة أنه لولا ما يسمى بحركة الكشوف الجغرافية والاستيطان الأوروبي الإحلالي الذي رافقها، واستغلال عشرات الملايين من العبيد الذين تم استرقاقهم وجلبهم من الساحل الأفريقي الغربي، وملايين أخرى من الآسيويين الذين شحنوا من شبه القارة الهندية وجزر الهند الشرقية وبلاد الهند الصينية، وساقتهم حظوظهم العاثرة إلى المستعمرات الأوروبية في أفريقيا والكاريبي والأميركتين لزراعة القطن وقصب السكر واستخراج الذهب والمعادن والفحم وخدمة حروب الإبادة التوسعية في المستعمرات، لما أمكن للأنكلوسكسون وأضرابهم أن يراكموا الثروات التي أتاحت تطوير وقيام الثورة الصناعية كقاعدة أساسية للرأسمالية. فالرأسمالية هي إذن محصلة لمختلف مراحل وأنماط نهب الثروة من الأطراف بالمستعمرات الأوروبية في آسية وأفريقية ومشروعات الاستيطان في الأميركتين إلى مراكز الإمبراطوريات الأوروبية. بل إن شركة الهند الشرقية الانكليزية، النجم الأكثر سطوعا بين نظيراتها الأوروبيات (الأسبانية والبرتغالية والهولندية والفرنسية) في المرحلة المركنتيلية، قد امتلكت جيوشا من المرتزقة وخاضت حروبا لا هوادة فيها ضد الهنود بشبه القارة الهندية في القرن الثامن عشر، وسيطرت على مستعمرات خدمة لأهدافها الاقتصادية الاستعمارية (النهب). بل إن بنية أو تشكيل أو تنظيم هذه الشركة أصبح مثلا يحتذى أو نموذجا لتشكيل المنظمات والهياكل الأوروبية في مختلف المجالات من بيروقراطية الدولة إلى الأحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. فتعبيرات مثل "الجمعية العامة" General Assembly و"اللجنة المركزية" Central Committee و"المكتب السياسي" Politburo و"السكرتير العام أو الأمين العام" Secretary-General، تجد جذورها في تنظيمات وتكوينات شركة الهند الشرقية الانكليزية. أما "فائض القيمة" الوارد في ثنايا وتضمينات التحليل الماركسي الكلاسيكي، ورددت مقولته الأحزاب الشيوعية الموسكوفية في البلاد العربية منذ عشرينات القرن الماضي، ويفترض أنه قد وقع تاريخيا على الأرض الأوروبية، أي في الحقول أو المناجم أو المصانع الأوروبية (بانكلترة أو اسكنلندة أو ويلز مثلا)، وتراكم ذلك الفائض ثروة ورساميلا ضخمة لصالح الإقطاعي أو المستثمر أو الرأسمالي الأوروبي، فقد سبقه وتجاوزه فائض قيمة آخر أو بالأحرى فائض الدم والعرق والمصير الإنساني المنهوب من مئات الملايين من عبيد وأقنان وعمال السخرة والكادحين في مزارع قصب السكر بمستعمرات جزر البحر الكاريبي وأميركا الوسطى وحقول القطن بولايات الجنوب الأميركي ومناجم الذهب والفحم الحجري بأنحاء الأميركتين، ومشروعات مد خطوط السكك الحديدية من شرق القارة الأميركية إلى غربها، ومشروعات متروبوليتان الأنفاق في لندن ونيويورك.(4) لذلك، ربما كان من الأحصف أو الأولى أن تُعكَس مقولة زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفيتي السابق، فلاديمير أيليتش لينين، حول علاقة الظاهرة الرأسمالية بالمشروع الاستعماري الامبريالي من "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" إلى "الرأسمالية أعلى مراحل أو نتائج الامبريالية". ينقسم كتاب "صعود المال" إلى ستة فصول: 1) المال والنظام المصرفي؛ 2) سوق السندات والديون الوطنية؛ 3) الشركات الأولى وسوق الأسهم؛ 4) التأمين وإدارة المخاطر؛ 5) الإسكان والممتلكات؛ 6) الانتقال العظيم للثروات من الغرب إلى الشرق. تتناول فصول الكتاب تاريخ المال والائتمان والخدمات المصرفية. ويعرض بالتفصيل الابتكارات المالية الكبرى مثل: مؤسسات الإقراض والتمويل (البنوك)، والسندات، والشركات المساهمة، والتأمين، وحقوق ملكية الممتلكات، فضلا عن شراك التضخم، والركود الاقتصادي، وفقاعات الأصول. ويختتم نيال فِرغسون كتابه بمناقشة التكرارات المختلفة للعولمة على مدى المائة عام الماضية بالإضافة إلى واحدة من أحدث التطورات المالية التي ساءت سمعتها في الوقت الحاضر، ألا وهي: صناديق التحوط (hedge funds). وقد تم تحويل الكتاب أيضا إلى مسلسل وثائقي عرض على القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني، بعد صدور طبعته الأولى. استشرف الكتاب الأخطار الكبيرة لديون الرهون العقارية الأميركية الباهظة، لكنه قلل من تأثيرها، شأنه في ذلك شأن العديد من الخبراء الاقتصاديين فيما يسمى بالتيار العام لعلماء الاقتصاد (mainstream economists). بيد أن مقابلات وأحاديث نيال فرغسون اللاحقة قد أظهرت أن رؤيته أصبحت أكثر تشاؤماً من ذي قبل بالنسبة لمآلات ومستقبل الولايات المتحدة. توقع فِرغسون حدوث أزمة مالية نتيجة للاعتماد المتزايد على الائتمان في الاقتصاد العالمي والاقتصاد الأميركي بوجه خاص. ويذكر الكتاب على سبيل التحديد "تخمة الادخار" الآسيوية التي أتاحت السيولة والإيداعات والاعتمادات، وساعدت على نشوء أزمة الرهن العقاري الأميركية. تتبّع المؤلف كيف أصبحت التصورات والمفاهيم الجديدة حول المال هي أساس النظام البنكي الحديث. وينفق فِرغسُن معظم الفصل الأول في توضيح التغيير الجذري أو الدور الحاسم الذي اضطلعت به النظم البنكية الأفضل أو الأكفأ في التنافس بين مختلف الدول الأوربية. فحوالي منتصف القرن الخامس عشر، أنشأت أسبانيا والبرتغال إمبراطوريات عبر البحار مترامية الأطراف. فسيطرت البرتغال على تجارة المحيط الهندي، بينما استولت أسبانيا على معظم الأميركتين الغنيتين بالذهب والفضة. وتصورت المَلكية الأسبانية أن الاحتياطي الهائل من ذهب (وفضة) الأميركتين الذي سيطرت عليه هو إضافة هامة لثرواتها. دفعت أسبانيا ثمن هذا التصور الخاطئ غالياً؛ فالزيادة العشوائية أو غير المنضبطة في عرض الأموال بالأسواق لم تكوّن ثروات حقيقية؛ بل سببت غلاء وتضخما للأسعار وارتفاع التكاليف، مما أدَّى لانكماش قيمة المال، ووضع المملكة الأسبانية تحت وطأة تضخم اقتصادي ونقدي حاد وإفلاس متكرر. وبالمحصلة، تمكن الانكليز والهولنديون من طرد أسبانيا والبرتغال من العديد من الأراضي خلال القرنين التاليين. يجادل المؤلف بأن الممارسات البنكية السليمة، علاوة على تأسيس البنوك (المركزية) القومية، هي الأساس العقلاني وراء ذلك التغير الجذري. فكل من المصرف الوطني في هولندا ونظيره أيضا في انكلترا سمح للحكومة بجمع الأموال لإنجاز مشروعاتها وأهدافها. كما أن البنوك المركزية القومية مارست رقابة وانضباطا أفضل للاقتصادات القومية بشكل عام، مما سبب ازدهارا لتلك الاقتصادات. بنهاية المطاف، تم تمكين البنك الوطني المركزي من وضع معدلات الفائدة، والتي تستطيع البنوك وفقا لها الاقتراض من احتياطاتها، كما أنه مسؤول عن مراقبة الأسعار لدرء التضخم والانكماش الاقتصادي معا. وهكذا يتاح لدوائر القرار والسياسة الاستمرار في تقديم الائتمان من قروض وضمانات، لدى ندرة المعروض منه؛ وتقليل الائتمان المعروض عندما يهدد ذلك بتجاوز القدرات المتوفرة. يعتقد فرغسون أن هذا النموذج المعتدل المتوازن شجع الاستثمار وبالتالي حفز الابتكار، فلم يعد رجال الأعمال يخشون خسارة أموالهم، بسبب التأميم أو إفلاس البنوك أو انهيار العملة. يعالج كتاب فرغسون تاريخ اقتراض المال من خلال الإجابة عن أسئلة مثل: متى بدأ الناس في إقراض المال للآخرين؟ ولماذا فعلوا هذا؟ وما هي مناقب ومثالب هذا النشاط؟ بدأ المالية الحديثة بإيطاليا، نظرا لأنها كانت في القرن الخامس عشر تعج بالأنشطة التجارية، وبدأ البحارة الساعين للإبحار باتجاه الجانب الآخر من العالم يحتاجون لمن يمولهم. في البداية، لم يكن بمقدور المسيحيين المشاركة في نشاط إقراض الأموال بالفائدة، حيث يمنعه الكتاب المقدس ويطلق عليه مصطلح "الربا" المرذول والمدموغ بالدنس، أما اليهود فقد فسروا هذا التحريم تفسيرا مختلفا بأنه يقتصر على تقاضي الفائدة من أحد أفراد العائلة. كذلك ناقش فِرغسُن في الفصل التالي تطور سوق السندات كساحة أو فضاء لبيع وتداول الديون الوطنية. فقد أدى توافر السندات الحكومية جزئيا إلى فتح الباب للتقدم الاقتصادي والعسكري الأوربي المضطرد، بحيث أتاح تمويل مشروعات كبيرة وطويلة المدى عجزت عن محاكاتها الأمم الأخرى غير الأوربية. يتتبع المؤلف مسار تاريخ سوق السندات وصولاً إلى عصر النهضة الإيطالية، وهو الزمن الذي أرغمت فيه الحكومة مواطنيها من أصحاب الرساميل على تمويل حربها ضد الإمبراطورية العثمانية. بيد أنها من ناحية أخرى، عوّضت الحكومة مواطنيها بفوائد على أموالهم المقترضة.(5) ثم يؤرخ فرغسون لشركة الهند الشرقية الهولندية المتحدة، باعتبارها أول شركة مساهمة في تاريخ العالم. تأسست الشركة في مطلع القرن السابع عشر (1602)، وحققت ازدهارا ونفوذا واسعا لهولندا. فأقامت شبكة من القلاع والمرافئ والأساطيل العاملة من نيويورك إلى إندونيسيا، وراكمت أرباحا كبيرة. بل يعتبرها فرغسون أول شركة حديثة بالعالم وجسدت بنظره اختراعا قانونيا عبقريا، فقد أصبح لعلاقة الشراكة بين المستثمرين شخصية قانونية اعتبارية، أي أصبحت بالمعنى القانوني كيانا اعتباريا قانونيا مستقلا عن شخصيات مؤسسيها والمساهمين بها. واستطاع الهولنديون بهذا الابتكار تطوير وتشجيع أفكار وأدوات الاستثمار طويل الأمد، وتحويله إلى مؤسسة عابرة للقارات والمحيطات، ومحدودة المسؤولية بحيث لا تتعدى مسؤولية المستثمر قيمة أسهمه. اللافت أن هذه الشركة، التي أصبحت نواة وأداة مشروع امبريالي ضخم ممتد عبر المحيطات الأطلسي والهادي والهندي، حجبت أرباحها عن حملة أسهمها سنينا عديدة. وخلال هذه المرحلة، موّلت الرساميل المستثمرة بناء الأساطيل البحرية التجارية، وأقامت المصانع اللازمة لإنتاج البضائع، التي كانت بدورها تقايض مقابل بهارات وتوابل وأنسجة آسيوية، ثم تُروّج هذه البضائع الآسيوية غالية الثمن بأنحاء أوروبة محققة الأرباح الطائلة. البارز في الخبرة التاريخية لتلك الشركة الهولندية أن قيمة أسهمها لم تكن قابلة للاسترداد نقدا من لدن الشركة، بل كانت الأسهم قابلة للبيع أو التداول بين الناس، وهذا قاد إلى نشوء أول أسواق (بورصات) تداول الأسهم في العالم بحسب فرغسون.(6) وبينما كان متاحا للمتداولين تحريك استثماراتهم بين الشركات، سبقت الشركات حسنة التنظيم والأعلى إنتاجا الأخرى الأدنى إنتاجا والأسوأ تنظيما، مما يعتبره المؤلف بحد ذاته عملية تجديد استتبعت نموا اقتصاديا واسعا.
ففي منتصف القرن الثامن عشر، استخدم رجال الكنيسة الاسكتلندية مبادئ الاحتمالات الرياضية في حساب المخاطر لأجل خفض التكاليف المالية، في سياق تحديد الخصومات الشهرية لصالح صندوق معاشات أسر المتوفين من القسس والعاملين بالكنيسة، وهي حِسبَة مركبة تتطلب الوقوف على متوسط الأعمار المتوقع وأسباب الوفيات. وهكذا أصبح تحليل المخاطر والمعادلات الناجمة عنها هي أسس التأمين نظرية وممارسة. وأتاح ذلك الأساس الرياضي العقلاني الضروري تصميم وقيام شبكات الأمان الاجتماعي للتخفيف من مخاطر النظام الرأسمالي وعواقبه على الفرد والمجتمع. ثم يركز المؤلف أكثر على جانب التنظير في سياق تفسيره لتطورات الأزمة المالية الأخيرة ودورها في تقويض عملية تكوين الثروة في الاقتصادات الغربية.
يدق فِرغسون أجراس الخطر منبها إلى احتمالات الكوارث الكامنة في فوضى الائتمان وإصدار سندات بالديون المعدومة، وهو الأمر الذي حقق أرباحا قبيل وقوع الكارثة. يقتفي المؤلف أثر فقاعات الأسواق المالية وعلاقتها بما يوليه الأميركيون والبريطانيون والكنديون وغيرهم من الشعوب الناطقة بالانكليزية من أهمية لتملك المنازل، وما يترتب على ذلك من اتساع أسواق ومؤسسات الإقراض العقاري، ودور ذلك في فقاعات الأسواق. فتضاعف إجمالي قروض الرهونات العقارية واجبة السداد بالولايات المتحدة منذ 1959 حتى الحاضر نحو 75 مرة. وبسبب هشاشة شبكات الأمان ومحدودية نظام الضمان الاجتماعي الأميركي، تجاوزت مسألة ملكية المنزل كونها حلما أميركيا سائدا، لتصبح قرارا ماليا عقلانيا. إذ يستطيع مالك المنزل بيعه أو رهنه في أوقات الأزمات للحصول على رأس المال، مع صعوبة البيع أثناء الانكماش الاقتصادي. وكثيرا ما يتورط الأفراد في شراء رهونات عقارية بأسعار فائدة متغيرة بدون استيعاب عواقبها جيدا. ذلك ربما لا يسبب بمفرده تشكيل فقاعة قائمة على ازدهار سوق العقارات والرهونات، بل هي عمليات إعادة تمويل تلك الرهونات العقارية بسهولة خادعة، وأصبحت سنة متبعة لاستمرار مستويات استهلاكية مرتفعة. لا ينكر أحد بأن الأزمة المالية العالمية الأخيرة هي محصلة إقراض تريليونات الدولارات للمستهلكين الأميركيين بضمان عقاراتهم التي تضخمت فقاعة أسعارها قبل أن تنفجر أزمة طاحنة عندما عجز المقترضون عن السداد بسبب محدودية النمو والرواج الاقتصادي في مقابل اتساع الاقتراض بغرض الاستهلاك. هذه القروض العقارية تم تجميعها وصياغتها في سندات تباع للمستثمرين من خلال ما بات يعرف بعملية "التوريق" التأميني للسندات، وثبت مؤخرا أنها لا تؤمن شيئا.(7) وعندما عجز ملايين المستهلكين الأميركيين عن سداد القروض العقارية بعد ارتفاع أسعار فوائدها وتضخم فقاعة قطاع الإسكان، أدى عدم السداد لاستنزاف عالمي للمحافط الاستثمارية. وحينها بدأ مستثمرون كثيرون يتداولون تعبيرا جديدا هو "سمية" السندات التي أودعوها أموالهم وأصبحت بلا قيمة(8). لا يفوت فِرغسُن هنا أن ينحي باللائمة على الاقتصاديين الأميركيين، ويرى أنه كان عليهم التحسّب للأزمة المالية العالمية. ويعلل تراجع الولايات المتحدة ماليا واقتصاديا باعتماد الاقتصاد الأميركي بشكل مضطرد على زيادة الاستهلاك وتحميل المستهلك أعباء مفرطة. فإنفاق الأميركيين يتجاوز ناتجهم القومي، وبذلك يرسلون مئات المليارات سنويا للمنتجين الأجانب الذين يقومون بتدوير دولاراتهم فيشترون سندات الحكومة الأميركية. وأتاح ذلك نمطا معينا من الحكومة ومستوى المعيشة لا يتحققان على نحو آخر. أظهرت الأزمة المالية العالمية عورات النظام المالي العالمي، وردت الاعتبار لمبادئ اقتصادية لا يمكن لقوة عظمى الاستمرار بإهمالها. فقد ضاق المقرضون الأجانب ذرعا بالسندات الحكومية الأميركية، ويسعون نحو الاستحواذ على أصول اقتصادية لها قيمة حقيقية، فأصبحوا يتملكون أصولا أكثر في الولايات المتحدة، ويزداد ما في حوزتهم منها بشكل مضطرد. لا يعتبر فرغسون هذه الأزمة الأخيرة فشلاً للرأسمالية، بل يراها فشل دولة رأسمالية بعينها هي الولايات المتحدة، ويتوقع لها مستقبلا أكثر قتامة وأن تخلُفها قوة رأسمالية أخرى، كالصين مثلا. وهذا أمر بالغ الأهمية لفهم الكاتب؛ فليس هناك فشل للرأسمالية، بل إن عدم استيعاب الدروس المستفادة من الرأسمالية الحديثة هو عين الفشل. فولاء فِرغسُن للنظام الاقتصادي الرأسمالية، في مقابل الدولة القومية، يكشف عن لامبالاة مفكري الرأسمالية بدور العوامل التاريخية والمحلية وغيرها. يستدعي هذا التفكير تلك القراءة الحتمية أو الغائية للتاريخ، التي طرأت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقدمت توكيداتها وجدالاتها حول "نهاية التاريخ"، والانتصار النهائية للديمقراطية الليبرالية الغربية واقتصاد السوق الحر.(9) لكن الأزمة المالية العالمية الطاحنة التي اندلعت أواخر 2008 أحاطت هذه القراءة بالشكوك وزعزعت يقين أصحابها بها. غير أن السردية الغربية الأوروبية التمركز ما زالت ماثلة في خطاب العلوم الاجتماعية الغربية، وإن لم يكن بنفس الحدة والغطرسة والعنصرية السابقة. فليس هناك بدائل اقتصادية أخلاقية منافسة أو محتملة لاقتصاد السوق الحر، بل إن البديل الصيني ليس سوى نمط جديد من الرأسمالية، أي رأسمالية الدولة.(10) ورغم أن نيال فِرغسون انتهي من تأليف هذا الكتاب في أواخر ربيع عام 2008، في الوقت الذي كانت فيه الأزمة المالية الدولية لا تزال تتكون تحت السطح، إلا أن الكتاب وثيق الصلة بهذه الأزمة. في الواقع، كانت هناك عشرات من الأزمات المالية الدورية في التاريخ الحديث، مما يدل على الطبيعة المتـقلبة المتأصلة في الأسواق المالية، حيث الطمع والخوف هي المشاعر الرئيسة. في هذا السياق، يؤكد كتاب فرغسون بشكل قاطع أن المفهوم الجديد لما يسمى "الاقتصاد السلوكي" يقدم وصفا أفضل بكثير لما يحدث في الأسواق من كل النظريات الاقتصادية السابقة، بما في ذلك النماذج الرياضية المتوهمة التي يفترض بها أن تجعل الاستثمار مضمونا. حيث كانت هذه النماذج الرياضية تعتمد على أن الأسواق تسير بشكل منطقي ويمكن التنبؤ بها؛ بينما يكشف التاريخ عن أن الأمور لا تجرى دائما أو بالضرورة على هذا النحو. يتضمن الكتاب قدرا كبيرا من المعلومات الهامة حول تصاعد الأزمة الراهنة، من مناقشات حول فضيحة شركة الطاقة "إنرون"، إلى الطريقة التي جمع بها المضاربون في البورصة – مثل الملياردير جورج سوروس- أموالهم، والزيادة التي لم يسبق لها مثيل في توريق التزامات الديون والتي – نظرا لأن الكثير منها ديون رديئة- قد هزت دعائم البنوك والمؤسسات التي كانت آمنة من قبل في جميع أنحاء العالم. يصف فِرغسون الأخطاء الفادحة التي حدثت في مؤسسة "لونغ تيرم كابيتال مانجمنت" لإدارة الأصول المالية، والتي كانت ذات يوم شركة استثمارية ناجحة، غير أنها فشلت على الرغم من نموذجها المعقد وانتشار أصولها. يرى فِرغسون أن السبب في انهيارها هو أن مديريها كانوا يعرفون القليل عن التاريخ، لذلك فقد استحقوا أن يتعلموا بالطريقة الصعبة ما لخصه أحد خبراء الاقتصاد البريطانيين في مقولته عما يحدث في أوقات الأزمات: "تظل الأسواق غير منطقية لفترة أطول من أن تستطيع فيها الاستمرار في الوفاء بالتزاماتك المالية". معلومات عن الكتاب: المؤلف: نيال فِرغسون العنوان: صعود المال: التاريخ المالي للعالم، |
Wednesday, August 18, 2010
كتاب صعود المال: التاريخ المالي للعالم
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment